تصعيد خطير في الكونغو- غوما تسقط، واتهامات إقليمية ودولية تتصاعد.

المؤلف: د.حكيم نجم الدين09.21.2025
تصعيد خطير في الكونغو- غوما تسقط، واتهامات إقليمية ودولية تتصاعد.

تشهد جمهورية الكونغو الديمقراطية تطورات متسارعة ومقلقة، حيث قطعت الحكومة الكونغولية علاقاتها الدبلوماسية مع رواندا. ويعزى ذلك إلى تقدم مقاتلي حركة "إم 23" المتمردة نحو غوما، المدينة الأكبر في مقاطعة شمال كيفو بشرق الكونغو الديمقراطية، وسيطرتهم على مطارها إثر هجوم دامٍ. وقد أثارت هذه الأحداث غضبًا شعبيًا، إذ خرج شباب كونغوليون في مظاهرات عارمة، مستهدفين سفارات دول مختلفة.

يمثل هذا التصعيد الأخطر منذ عام 2012 في الصراع المستمر منذ ثلاثة عقود، والناجم عن تداعيات الإبادة الجماعية في رواندا والتنافس المحموم على الثروات المعدنية الهائلة في الكونغو الديمقراطية.

تصعيد خطير للأزمة

تكمن خطورة سيطرة متمردي حركة "إم 23" على غوما في موقعها الاستراتيجي بالقرب من الحدود الرواندية، ودورها المحوري كمركز للتجارة والإغاثة الإنسانية. وقد أثار هذا الاستيلاء هلعًا بين السكان الذين يناهز عددهم المليونين، وعطّل الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والإنترنت، وسط انتشار أعمال النهب والفوضى.

إن سقوط غوما في يد المتمردين يضعف سلطة الحكومة الكونغولية على الوضع المضطرب في شرق الكونغو الديمقراطية، ويقلص تحكمها في عمليات التعدين والاقتصاد في المنطقة. وهذا يفتح الباب أمام تحالف محتمل بين حركة "إم 23" وجماعات مسلحة أخرى، بهدف إجبار الحكومة الكونغولية على الرضوخ لمطالبهم. كما يمنح الحركة المتمردة فرصة سانحة لتعزيز مواردها المالية من خلال التعدين غير المشروع أو التجارة بالكولتان والذهب عبر الدول المجاورة التي تقدم لها الدعم اللوجستي والمعنوي.

علاوة على ذلك، فإن سقوط غوما يزيد من احتمالية زحف المتمردين نحو "بوكافو"، ثاني أكبر مدن شرق الكونغو الديمقراطية، أو مناطق أخرى في شرق البلاد، وذلك في ظل عجز الجيش الكونغولي عن التصدي للمتمردين، رغم الدعم الذي يتلقاه من القوات الإقليمية والميليشيات المحلية الموالية للحكومة.

وفي ظل اتهام الحكومة الكونغولية لرواندا بـ "إعلان حرب" من خلال دعمها لحركة "إم 23"، قد تقدم دولتا أوغندا وبوروندي المجاورتان، واللتان لديهما طموحات ومصالح عسكرية في المنطقة، على اتخاذ موقف عسكري، مما قد يؤدي إلى توسيع نطاق الصراع وتصعيد التوترات الإقليمية.

ويمكن فهم البعد الإقليمي لهذا التطور في ضوء فشل القوة الإقليمية التابعة لجماعة شرق أفريقيا، التي تم نشرها بين نوفمبر 2022 وديسمبر 2023 لتحقيق الاستقرار في شرق الكونغو الديمقراطية، في احتواء القتال.

في المقابل، يعرب العديد من الكونغوليين عن استيائهم من "مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي" (سادك) ويعتبرون مهمتها غير فعالة.

وقد وقع سقوط غوما بعد أن قررت "سادك" تمديد مهمتها في الكونغو الديمقراطية لمدة عام. وفي يناير الماضي، قُتل تسعة من قوات حفظ السلام الجنوب أفريقية بعد يومين من الاشتباكات العنيفة مع متمردي "إم 23" في غوما.

وكان سبعة من القتلى جنودًا من قوة "سادك"، بينما كان الاثنان الآخران من بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (مونوسكو). وأثار مقتلهم جدلاً واسعًا في جنوب أفريقيا، مما يهدد بتدهور العلاقات بين جنوب أفريقيا والدول الإقليمية المتهمة بدعم المتمردين الذين يزعزعون الاستقرار في شرق الكونغو الديمقراطية.

لماذا استهدفت الاحتجاجات سفارات معينة؟

عقب سقوط المدينة، تجمعت حشود غاضبة من المتظاهرين، معظمهم من الشباب، في كينشاسا عاصمة الكونغو الديمقراطية، وأحرقوا الأعلام وهاجموا سفارات رواندا وأوغندا وكينيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والولايات المتحدة. وتدل هذه المظاهرات واستهداف هذه السفارات على عدة أمور، يمكن تلخيصها فيما يلي:

رواندا وأوغندا والاتهام بدعم المتمردين:

يعكس إحراق المتظاهرين للأعلام الرواندية وصور الرئيس بول كاغامي الاعتقاد السائد بأنه يدعم متمردي حركة "إم 23". وهو الاتهام الذي أكدته الأمم المتحدة، مشيرة إلى أن الجيش الرواندي "يسيطر بحكم الأمر الواقع على عمليات حركة إم 23" ويشرف على تدريب مجندي الحركة ويدعمهم بأسلحة رواندية متطورة.

ورغم نفي رواندا تورطها في أزمة شرق الكونغو ورفضها تهمة دعم حركة "إم 23"، فإن استيلاء الحركة على غوما يعزز الاتهام، ليس فقط لأن غوما تقع على الحدود مع رواندا، بل لأن تقارير حديثة كشفت عن استسلام بعض جنود الجيش الكونغولي في غوما يوم الاثنين بعبور الحدود إلى رواندا.

وتجدر الإشارة إلى أن الموقف الرواندي قد تغير على مر السنين، من نفي التهمة إلى تبرير التدخل. إذ يرى الرئيس الرواندي كاغامي أن ميليشيات الهوتو المتورطة في قتل حوالي 800 ألف شخص، معظمهم من التوتسي، أثناء الإبادة الجماعية الرواندية عام 1994، تستقر في الكونغو الديمقراطية، ويشكل بعضها حركة "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" المسلحة التي تسعى إلى الإطاحة بحكومته.

لذلك يعتبر كاغامي - الذي قاد قوات التوتسي التي أنهت الإبادة الجماعية - أن بقاء ميليشيات الهوتو قرب حدود رواندا يشكل تهديدًا وجوديًا لإدارته، مما دفعه إلى غزو الكونغو الديمقراطية مرتين بدعوى مكافحة الميليشيات المتمردة.

من ناحية أخرى، تضم حركة "إم 23" غالبية من التوتسي (وهم نفس المجموعة العرقية التي ينتمي إليها كاغامي). ويمكن اعتبار إحراق الكونغوليين للعلم الرواندي ومهاجمة سفارتها وقطع كينشاسا علاقاتها معها ردة فعل على ما وصف بـ "الغطرسة" الرواندية، وخاصة بعد مقتل الحاكم العسكري لشمال كيفو (الذي اتهمته رواندا بالتعاون مع "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا") أثناء القتال الأسبوع الماضي.

كينيا وتصورات الانحياز:

يعكس الهجوم على السفارة الكينية الشعور المتزايد في الكونغو الديمقراطية بانحياز كينيا إلى رواندا وأوغندا في هذا الصراع، خاصة بعد أن أشار تقرير للأمم المتحدة في عام 2024 إلى احتمال دعم كينيا لمتمردي "إم 23" أو حفاظها على صلة بالحركة.

ويتفق الرئيس الكيني ويليام روتو مع الموقف الرواندي من الأزمة، حيث صرح في مايو 2024 بأن الصراع لا يمكن حله إلا من خلال الحوار، وهو نفس الموقف الذي يعبر عنه الرئيس الرواندي.

وقد ساهمت كينيا في جهود حفظ السلام في شرق الكونغو الديمقراطية، إذ نشرت أكثر من 900 عسكري في نوفمبر 2022 ضمن إطار "جماعة شرق أفريقيا". ومع ذلك، قررت الحكومة الكونغولية عدم تجديد تفويض القوة الإقليمية بسبب اتهامات بعدم الفاعلية وانحياز بعض المشاركين فيها.

لذلك، لم يكن من المستغرب أن دعت كينيا، بعد استيلاء حركة "إم 23" على غوما، إلى عقد قمة طارئة لجماعة شرق أفريقيا في نيروبي، ودعت الرئيسين الرواندي كاغامي والكونغولي فيليكس تشيسكيدي إلى التوصل لهدنة وإنهاء الصراع. لكن الصحف المحلية في الكونغو الديمقراطية ذكرت أن الرئيس الكونغولي تشيسكيدي يرفض المشاركة في محادثات سلام مع نظيره كاغامي.

السفارات الغربية وتكثيف الضغط:

تشير الهجمات على سفارات الدول الغربية إلى الرأي السائد في الكونغو الديمقراطية بأن الغرب لا يبذل جهودًا كافية لردع رواندا عن دعم حركة "إم 23" أو انتهاك السيادة الكونغولية، خاصة وأن كثيرين يعتبرون الرئيس الرواندي حليفًا للغرب ويتلقى دعمًا ماليًا من الاتحاد الأوروبي للعمليات العسكرية الرواندية في موزمبيق في إطار جهود مكافحة الإرهاب.

ويرتبط هذا الرأي أيضًا بحقيقة أن شرق الكونغو الديمقراطية يمثل محورًا رئيسيًا للمصالح الغربية بسبب ثرواتها المعدنية الوفيرة، والتي تعتبر بالغة الأهمية للصناعات الغربية، مثل الإلكترونيات والمركبات الكهربائية. وقد واجهت الأنشطة الغربية في المنطقة انتقادات بسبب اتهامات باستغلال الموارد والفساد والفشل في معالجة الأسباب الجذرية للصراع.

على سبيل المثال:

يتهم الكونغوليون فرنسا بدعم رواندا. وقد يكون هذا نابعًا من الجهود المبذولة منذ عام 2011 لإصلاح العلاقات الثنائية بين باريس وكيغالي، أو بسبب الدور المتنامي لرواندا في الأمن الإقليمي، والذي تجسد في مشاركتها العسكرية في موزمبيق والعقود الأمنية اللاحقة مع شركات مثل "توتال إنرجيز" الفرنسية.

ومع ذلك، دعت فرنسا في العام الماضي رواندا إلى وقف أي دعم لمتمردي حركة "إم 23" وسحب قواتها من شرق الكونغو الديمقراطية. بل واتهمت كل من فرنسا وألمانيا في ديسمبر 2022 رواندا بدعم المتمردين المسلحين في شرق الكونغو المجاورة.

وفي حالة بلجيكا، فإن تورطها في الكونغو الديمقراطية متشعب الجوانب، ويرتبط بديناميكيات تاريخية ومعاصرة. فقد استعمرت بلجيكا الكونغو الديمقراطية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى عام 1960.

وشهدت الكونغو الديمقراطية بعد الاستقلال فترة من الاضطرابات السياسية لعب فيها تدخل بلجيكا، من خلال الإجراءات العسكرية والنفوذ السياسي، دورًا حاسمًا في تشكيل مسار الدولة المستقلة. كما حافظت بلجيكا على مصالح اقتصادية كبيرة في الكونغو الديمقراطية، وخاصة في قطاع التعدين، حيث تشارك الشركات البلجيكية في استخراج الموارد المعدنية الغنية.

واليوم، تعد بلجيكا من بين الدول الغربية التي تواجه اتهامات من الكونغوليين بدعم رواندا، حتى وإن كانت بلجيكا قد حثت كيغالي على وقف جميع المساعدات المقدمة لـ "إم 23" وإقناع مقاتلي الحركة بالعودة إلى عمليات نزع السلاح وإعادة الإدماج.

وامتنعت بلجيكا عن التصويت في الاتحاد الأوروبي على الموافقة على تقديم 20 مليون يورو كمساعدات للقوات الرواندية، مشيرة إلى مخاوف بشأن دور رواندا في شرق الكونغو الديمقراطية.

كما اقترح سفير بلجيكا لدى الكونغو الديمقراطية أن تقدم كينشاسا شكوى ضد رواندا أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات الحدود ودعم تمرّد "إم 23".

وتواجه الولايات المتحدة اتهامات مماثلة بالتقاعس والتواطؤ والتنافس على المصالح الاقتصادية في شرق الكونغو الديمقراطية، وخاصة في ضوء المشاريع والتحركات الأميركية الأخيرة في منطقة حزام النحاس وممر لوبيتو.

ومع ذلك، أعلنت واشنطن عن إدانتها للوجود غير القانوني للقوات الرواندية داخل الكونغو الديمقراطية، ودعت كيغالي إلى إنهاء دعمها لحركة "إم 23"، مؤكدة استعدادها لدعم جهود السلام الإقليمية والمبادرات الرامية إلى حل الصراع.

وبناءً على ما سبق، فإن مهاجمة السفارات الغربية من قبل المحتجين الكونغوليين قد يضغط على الغرب للتحرك بشأن الصراع، دفاعًا عن مصالحه التجارية والاقتصادية في الكونغو الديمقراطية.

كما يسلط استيلاء متمردي حركة "إم 23" على مدينة غوما وما أعقبه من احتجاجات في كينشاسا الضوء على مدى التشابك بين المظالم المحلية وديناميكيات المصالح الإقليمية والدولية في أزمة شرق الكونغو الديمقراطية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة